نظّم مجلس نواب الشعب صباح اليوم الأربعاء 11 أكتوبر2023 يوما دراسيا برلمانيا حول "استقلالية البنك المركزي وفاعلية السياسة النقدية في تونس"، أشرف عليه السيد إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب، وحضره نائب رئيس المجلس السيد الأنور المرزوقي وعدد هام من النواب والضيوف من المجلس البنكي والمالي، ومن قطاعي البنوك والمحاماة . وتضمّن هذا اليوم الدراسي مداخلة قدّمها الأستاذ رضا الشكندالي، أستاذ العلوم الاقتصادية بالجامعة التونسية، تلاها نقاش تفاعلي.
وأبرز السيد إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب في البداية أهمية هذا اليوم الدراسي الذي يندرج في إطار نشاط الاكاديمية البرلمانية وفي سياق انفتاح البرلمان على المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والاستماع الى الكفاءات التونسية.
وأكّد أن مفهوم الوطنية يقتضي أن يعمل الجميع من أجل خدمة تونس وضمان رقيّها، مضيفا أن بلادنا لديها من القدرات والخبرات والكفاءات ما يمكّنها من أن تكون في وضع أحسن. وأشار الى أن العمل الجماعي ومختلف المجهودات المبذولة تهدف بدرجة أولى الى السعي الى تلبية طموحات الشعب في الرقي واستبعاد ثقافة اليأس التي استشرت في البعض، وتحويلها الى ثقافة أمل لضمان استقرار الشباب والنخب والكفاءات التونسية في وطنهم. كما شدّد على ضرورة أن يعمل كل من موقعه بنفس الحماس والطموح، وعلى أن تصبح هذه الرؤية الجديدة عقيدة لدى كل مواطن تونسي.
ثم تولّى الأستاذ رضا الشكندالي، أستاذ العلوم الاقتصادية بالجامعة التونسية، تقديم مداخلة تحت عنوان "استقلاليّة البنك المركزي التونسي وسياسته النقديّة، هل مكّنت من مكافحة التضخّم المالي ودفع النمو الاقتصادي؟". وتولّى في البداية توضيح مفهوم استقلاليّة البنك المركزي، مبيّنا أنه مؤسسة تعمل في الإطار المؤسّسي للدولة ، وتتجلّى استقلاليّته في حريّة التصرّف في السياسة النقديّة، طبقا لقانونه الأساسي، بهدف مقاومة التضخّم المالي بعيدًا عن التأثيرات السياسيّة. وأشار الى أهميّة استقلاليّة البنك المركزي، مفيدا بأن البلدان التي تمكنت من مقاومة التضخّم المالي هي التي يتمتّع فيها البنك المركزي بأكثر استقلاليّة.
وأشار من جهة أخرى الى الحاجة الملحّة لتنقيح القانون الأساسي للبنك المركزي باعتباره يستند في عدد من فصوله إلى دستور 2014 ، على غرار الفصل 46 المتعلّق بتعيين المحافظ.
وانتقد الأستاذ رضا الشكندالي المقاربة المعتمدة من طرف البنك المركزي التونسي والتي تقوم على اعتبار استهلاك المواد الموردة هو السبب الرئيسي للتضخّم المالي، معتبرا الاستهلاك محرّكا من محرّكات النمو الاقتصادي. كما نبّه الى سلبيات ما اعتبره افراطا في الترفيع في نسبة الفائدة المديريّة كإجراء استباقي للحدّ من التضخّم المالي. وأفاد أنه تمّ بين 2012 و2023 الترفيع في نسبة الفائدة المديريّة 16 مرّة ورغم ذلك لم ينجح البنك المركزي في الحدّ من التضخّم. وأشار الى أن عدم الاستقرار على مستوى السياسة النقديّة أدّى إلى اهتزاز ثقة المستثمرين وبالتالي تعطيل محرّكات النمو الاقتصادي. وبيّن في هذا الصدد مدى تقيّد البنك المركزي بمقتضيات قانونه الأساسي الذي لا يتيح له إلا الترفيع في نسبة الفائدة المديريّة للسيطرة على التضخّم.
وتطرّق من جهة أخرى إلى بيانات هيئة السوق المالية الصادرة في سبتمبر 2023 وما تضمنته من معطيات اعتبرها "مرعبة" على غرار القيمة العالية للفوائد التي وظّفتها البنوك العموميّة الثلاثة والتي ارتفعت بنسبة ـ21.6% خلال فترة قصيرة، إضافة الى غياب الشفافيّة في علاقة بالأجور والمنح. وحمّل البنك المركزي مسؤوليّة ما اعتبره إخلالا في مراقبة البنوك التجاريّة، مبيّنا أن هذه الأخيرة تتحمّل جزءا من المسؤوليّة في تفاقم معضلة التضخّم المالي.
ثم أشار الى الأسباب الرئيسيّة للتضخّم، حيث أوضح أن منها ما يتعلّق بالمصدر النقدي على غرار لجوء الدولة المفرط إلى الاقتراض الدّاخلي، والركود التضخّمي أي تقليص الاستهلاك المحلّي، والاحتكار والمضاربة. ويتعلق عدد اخر من الأسباب بالاقتصاد الحقيقي مثل تآكل العملة الصعبة وعدم الاستقرار السياسي والضغط الجبائي وسياسة الصرف وتراجع قيمة الدّينار. وتتصل أسباب أخرى بعوامل خارجيّة كتعطّل المفاوضات مع صندوق النقد الدّولي وارتفاع الأسعار على المستوى العالمي وغيرها.
واعتبر الأستاذ رضا الشكندالي، أن سياسة صندوق النقد الدولي غير مجدية بالنسبة للواقع التونسي، وهو ما يحتّم على المفاوضين التونسيين مناقشة السياسات لاستخلاص الجودة المطلوبة.
وبيّن من جهة أخرى أن الاقتراض المباشر للدولة من البنك المركزي يجب أن يخضع الى شروط، أوّلها أن لا يموّل القرض النفقات الاستهلاكيّة للدّولة بل يوجّه لتمويل نفقات التنمية. وبتمثل الشرط الثاني في أن يكون المبلغ محدّدا في قيمته في إطار التعاون بين الحكومة والبنك المركزي، مقترحا في هذا السياق التنصيص ضمن القانون الأساسي للبنك المركزي على أن يكون تحقيق النمو الاقتصادي هدفا ثان للبنك الى جانب محاربة التضخّم المالي. أما الشرط الأخير فيتعلّق بإلغاء مبدأ عدم التخصيص المنصوص عليه في قانون الميزانيّة.
هذا وعرض الأستاذ رضا الشكندالي مقترح برنامج إنقاذ مالي يتضمّن أربعة محاور. ويتمثّل الاوّل في تأمين إنتاج الفسفاط ونقله الى الموانئ من طرف الجيش الوطني مع إصلاح المعدات وسكك الحديد المرتبطة بذلك. ويتصّل الثاني بتمكين التونسيين العاملين بالخارج من فتح حساب بالعملة الصعبة وتمتيعهم بالفوائد المترتبة عن ذلك مع اعفائهم من الأداء على الثروة المحدث في قانون الماليّة 2023. اما المحور الثالث فيهمّ التخفيض في الأداء على أرباح الشركات المصدرة كليّا. ويتعلّق الرابع بالعفو الجبائي التام على الأموال المتداولة بالعملة الصّعبة في السوق الموازية.
وخلال النقاش أشار الضيوف الى أهمية التمييز بين الاستقلالية الهيكلية والوظيفية للبنك المركزي، معتبرين ان الوضع الصعب للاقتصاد الوطني تتحمله عديد الأطراف وهو ناتج عن عدم التناغم بين الموازنات والسياسة النقدية. كما أشاروا الى مخاطر الاقتراض المباشر للدولة من قبل البنك المركزي الذي يمكن ان يساهم في ارتفاع مشط لنسب التضخم.
واعتبر المتدخّلون أن التفكير في الحدّ من استقلالية البنك المركزي يجب ان يكون مدروسا ويخضع لظوابط كأن يكون الإقراض المباشر موجها للاستثمار وليس للاستهلاك، إضافة الى إمكانية تحديد سقف مبلغ التمويل والسماح للبنك المركزي بتمويل الانفاق العام في حدود 3بالمائة.
كما أكّد الضيوف أهمية مراجعة مجلة الصرف، ودعوا الى إرساء سياسة جبائيه ناجعة، مبرزين أهمية تشريك جميع الأطراف في صياغة تصوّر موضوعي لإرساء منظومة بنكية فعّالة من أجل نظام اقتصادي ناجع.
وقدّم النواب في مداخلاتهم مجموعة من المقترحات تعلّقت أساسا بمسألة استقلالية البنك المركزي معتبرين أن الاشكال الرئيسي يكمن في غياب تصور ورؤية اقتصادية واضحة الى جانب عدم تناغم سياسة البنك المركزي مع سياسة الدولة.
ودعا البعض الى ضرورة التقييم اللازم للقانون الأساسي للبنك المركزي ومراجعة تعديلات 2016، بما يتماشى مع التحوّلات الاقتصادية العالمية ويتلاءم مع متطلّبات الاقتصاد الوطني. وطالبو ا كذلك بمراجعة المنظومة النقدية ملاحظين البطء في إحالة بعض مشاريع القوانين على البرلمان لا سيما المتعلقة بإصلاح الوضع الاقتصادي ومنها مجلة الصرف وقانون الاستثمار وقانون البنك المركزي.
وفي تعقيبه على التدخلات خلص الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي الى ان الإدارة هي المعطل الأساسي للنمو الاقتصادي إضافة الى إشكاليات التمويل، معتبرا ان الحل يكمن في إرساء سياسة نقدية وجبائية اقتصادية متناغمة و إرساء مخطط خماسي و ميزان اقتصادي لتنفيذ المخطط كل سنة . وتطرّق من جهة أخرى الى أهمية مراجعة سياسة التفاوض مع صندوق الدولي.
هذا وأجمع الحاضرون على أهمية مبادرة الاكاديمية البرلمانية في تنظيم هذا اليوم الدراسي ، ودعوا الى أهمية تكثيف مثل هذه اللقاءات وتكوين خلايا تفكير حول الشأن الاقتصادي لمعاضدة مجهودات الوظيفة التنفيذية ، مع حثها على إحالة مشاريع القوانين اللازمة في هذا الغرض.
وتولّى رئيس مجلس نواب الشعب في ختام اليوم البرلماني تكريم الأستاذ رضا الشكندالي